فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{هَلْ يَنظُرُونَ} استفهام في معنى النفي، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب، أو إلى {مَن يُعْجِبُكَ} [البقرة: 204] إن أريد به مؤمنو أهل الكتاب أو المسلمون. {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} بالمعنى اللائق به جل شأنه منزهًا عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات. {فِي ظُلَلٍ} جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك، وقرئ: {ظلال} كقلال {مّنَ الغمام} أي السحاب أو الأبيض منه. {والملئكة} يأتون، وقرئ: {والملئكة} بالجر عطف على {ظلل} أو {الغمام} والمراد: مع الملائكة أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله تعالى الأوّلين والآخرين لميقات يوْم معلوم قيامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي»؛ وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتًا تنخلع له القلوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من الغمام ظللًا يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة، وقرأ أبيّ {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله والملئكة فِي ظُلَلٍ} ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفًا فقال: في الآية الإسناد مجازي، والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو حقيقي، والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه: {أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] فإن العزة والحكمة تدل على الانتقام بحق، وهو البأس والعذاب، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة، ويكون ذكر الله تعالى حينئذٍ تمهيدًا لذكرهم كما في قوله سبحانه: {يخادعون الله والذين آمَنُوا} [البقرة: 9] على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالًا في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم التنقل الجسم والله منزه عنه، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي، فإن كان الكلام خبرًا أو تهكمًا فلا حاجة للتأويل، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيدًا من الله لزم التأويل، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت، فلابد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون:
الوجه الأول ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى، لكن بلا كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث. فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوهٌ منها:
الوجه الثاني: أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعًا لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعًا للفريقين، أو هو مجاز في الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول: أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصلَه، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى: {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} [الحشر: 2] وقال: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} [النحل: 26] وليس قوله: {في ظلل من الغمام} بمناف لهذا المعنى، لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلق قدرته يكون محفوفًا بذلك لتشعر به الملائكة وسيأتي بيان {في ظلل من الغمام} قريبًا.
الوجه الثالث: إسناد الإتيان إلى الله تعالى إسناد مجازي وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه {في ظلل من الغمام} زيادة تنويه بذلك المظهر ووقعه لدى الناظرين.
الوجه الرابع: يأتيهم كلام الله الدالُّ على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعًا من قِبَل ظلل من الغمام تحفه الملائكة.
الوجه الخامس: أن هنالك مضافًا مقدرًا أي يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآننِ أو يأتي أمر ربك وقوله: {فجاءها بأسنا بياتًا} [الأعراف: 4] ولا يخفى أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازًا في ظهور الأمر.
الوجه السادس: حذف مضاف تقديره، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رُسُله ويبعِّده قوله: {في ظلل من الغمام} إلاّ أن يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث.
الوجه السابع: أن هنالك معمولًا محذوفًا دل عليه قوله: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} [البقرة: 209] والتقدير أن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه. والأحسن تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعْدًا ووعيدًا.
وقد ذكرتُ في تفسير قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات} في [سورة آل عمران: 6] ما يتحصل منه أن ما يجري على اسمه تعالى من الصفات والأحكام وما يسند إليه من الأفعال في الكتاب والسنة أربعة أقسام: قسم اتصف الله به على الحقيقة كالوجود والحياة لكن بما يخالف المتعارف فينا، وقسم اتصف الله بلازم مدلوله وشاع ذلك حتى صار المتبادر من المعنى المناسبُ دون الملزومات مثل الرحمة والغضب والرضا والمحبة، وقسم هو متشابه وتأويله ظاهر، وقسم متشابه شديد التشابه.
وقوله تعالى: {في ظلل من الغمام} أشد إشكالًا من إسناد الإتيان إلى الله تعالى لاقتضائه الظرفية، وهي مستحيلة على الله تعالى، وتأويله إما بأن في بمعنى الباء أي {يأتيهم بظلل من الغمام} وهي ظلل تحمل العذاب من الصواعق أو الريح العاصفة أو نحو ذلك إن كان العذاب دنيويًا، أو في ظلل من الغمام تشتمل على ما يدل على أمر الله تعالى أو عذابه {وإن يروا كسفًا من السماء ساقطًا يقولوا سحاب مركرم} [الطور: 44] وكان رسول الله إذا رأى السحاب رئي في وجهه الخوف من أن يكون فيه عذاب، أو على كلامه تعالى، أو الحاجبة لأنوار يجعلها الله علامة للناس يوم القيامة على ابتداء فصل الحساب يدرك دلالتها أهل الموقف وبالانكشاف الوجداني، وفي تفسير القرطبي والفخر قيل: إن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، وأصل الكلام أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام، فالغمام ظرف لإتيان الملائكة، وروي أن ابن مسعود قرأها كذلك، وهذه الوجوه كلها مبنية على أن هذا إخبار بأمر مستقبل، فأما على جعل ضمير {ينظرون} مقصودًا به المنافقون من المشركين أو اليهود بأن يكون الكلام تهكمًا أي ماذا ينتظرون في التباطؤ عن الدخول في الإسلام، ما ينتظرون إلاّ أن يأتيهم الله في أحوال اعتقدوها فيكلمهم ليدخلوا في الدين، فإنهم قالوا لموسى: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} [البقرة: 55] واعتقدوا أن الله في الغمام، أو يكون المراد تعريضًا بالمشركين، وبعض التأويلات تقدمت مع تأويل الإتيان.
وقرأه الجمهور {والملائكة} بالرفع عطفًا على اسم الجلالة، وإسنادُ الإتيان إلى الملائكة لأنهم الذين يأتون بأمر الله أو عذابه وهم الموكل إليهم تنفيذ قضائه، فإسناد الإتيان إليهم حقيقة فإن كان الإتيان المسند إلى الله تعالى مستعملًا في معنى مجازي فهو مستعمل بالنسبة للملائكة في معناه الحقيقي فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وإن كان إسناد الإتيان إلى الله تعالى مجازًا في الإسناد فإسناده إلى الملائكة بطريق العطف حقيقة في الإسناد ولا مانع من ذلك؛ لأن المجاز الإسنادي عبارة عن قصد المتكلم مع القرينة، قال حُمَيْد بن ثَوْر يمدح عبد الملك:
أتاك بي الله الذي نَوَّر الهدى ** ونورٌ وإسلامٌ عليكَ دليل

فأسند الإتيان به إلى الله وهو إسنادٌ حقيقي ثم أسنده بالعطف للنورِ والإسلام، وإسناد الإتيان به إليهما مجازي لأنهما سبب الإتيان به ألا ترى أنه قال عليك دليل.
وقرأ أبو جعفر {والملائكة} بجر {الملائكة} عطف على {ظلل}. اهـ.

.قال الخازن:

اعلم أن هذه الآية من آيات الصفات للعلماء في آيات الصفات وأحاديث الصفات مذهبان أحدهما وهو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة: الإيمان والتسليم لما جاء في آيات الصفات وأحاديث الصفات، وأنه يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت ونكل علمها إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مع الإيمان، والاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن سمات الحدوث وعن الحركة والسكون. قال الكلبي: هذا من الذي لا يفسر وقال سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عليه ليس لأحد أن يفسره إلاّ الله ورسوله. وكان الزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها اقرؤوها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل هذا مذهب أهل السنة ومعتقد سلف الأمة، وأنشد بعضهم في المعنى:
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته ** لا ذاته شيء عقيدة صائب

نسلم آيات الصفات بأسرها ** وأخبارها للظاهر المتقارب

ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا ** وتأويلنا فعل اللبيب المغالب

ونركب للتسليم سفنًا فإنها ** لتسليم دين المرء خير المراكب

المذهب الثاني وهو قول جمهور علماء المتكلمين، وذلك أنه أجمع المتكلمين من العقلاء والمعتبرين من أصحاب النظر على أنه تعالى منزه عن المجيء والذهاب، ويدل على ذلك أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث، والله تعالى منزه عن ذلك فيستحيل ذلك في حقه تعالى فثبت بذلك أن ظاهر الآية ليس مرادًا، فلابد من التأويل على سبيل التفصيل، فعلى هذا قيل في معنى الآية هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله الآيات فيكون مجيء الآيات مجيئًا لله تعالى على سبيل التفخيم لشأن الآيات وقيل معناه إلاّ أن يأتيهم أمر الله ووجه هذا التأويل أن الله تعالى فسره في آية أخرى فقال: هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك، فصار هذا الحكم مفسرًا لهذا المجمل في هذه الآية.
وقيل: معناه يأتيهم الله بما أوعد من الحساب والعقاب فحذف ما يأتي به تهويلًا عليهم إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد، وإذا لم يذكر كان أبلغ وقيل يحتمل أن تكون الفاء بمعنى الباء لأن بعض الحروف يقوم مقام بعض فيكون المعنى هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة، والمراد العذاب الذي يأتي من الغمام مع الملائكة، وقيل معناه ما ينظرون إلاّ أن يأتيهم قهر الله وعذابه في ظلل من الغمام. فإن قلت: لم كان إتيان العذاب في الغمام؟ قلت: لأن الغمام مظنة الرحمة ومنه ينزل المطر، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم وأفظع وقيل إن نزول الغمام علامة لظهور القيامة وأهوالها. اهـ.